الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الجزء الثامن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا} "، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَقَرُّوا بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَسَلَّمُوا لَهُ الْأُلُوهَةِ وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُبُوَّتِهِ وَفِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ مِنْ شَرَائِعِ دِينِهِ "أَوْفَوْا بِالْعُقُودِ"، يَعْنِي: أَوْفَوْا بِالْعُهُودِ الَّتِي عَاهَدْتُمُوهَا رَبَّكُمْ، وَالْعُقُودَ الَّتِي عَاقَدْتُمُوهَا إِيَّاهُ، وَأَوْجَبْتُمْ بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ حُقُوقًا، وَأَلْزَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهَا لِلَّهِ فُرُوضًا، فَأَتَمُّوهَا بِالْوَفَاءِ وَالْكَمَالِ وَالتَّمَامِ مِنْكُمْ لِلَّهِ بِمَا أَلْزَمَكُمْ بِهَا، وَلِمَنْ عَاقَدْتَمُوهُ مِنْكُمْ، بِمَا أَوْجَبْتُمُوهُ لَهُ بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَنْكُثُوهَا فَتَنْقُضُوهَا بَعْدَ تَوْكِيدِهَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي "الْعُقُودِ" الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، بَعْدَ إِجْمَاعِ جَمِيعِهِمْ عَلَى أَنَّ مَعْنَى "العُقُودِ"، الْعُهُودُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الْعُقُودُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَاقَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى النُّصْرَةِ وَالْمُؤَازَرَةِ وَالْمُظَاهَرَةِ عَلَى مَنْ حَاوَلَ ظُلْمَهُ أَوْ بَغَاهُ سُوءًا، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى "الحِلْفِ" الَّذِي كَانُوا يَتَعَاقَدُونَهُ بَيْنَهُمْ. ذُكِرُ مِنْ قَالَ: مَعْنَى "العُقُودِ"، الْعُهُودُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍِ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، يَعْنِي: بِالْعُهُودِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، قَالَ: الْعُهُودُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يُحَدِّثُهُمْ، فَقَالَ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، قَالَ: هِيَ الْعُهُودُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، قَالَ: الْعُهُودُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِِ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، قَالَ: هِيَ الْعُهُودُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، بِالْعُهُودِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، قَالَ: بِالْعُهُودِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، قَالَ: هِيَ الْعُهُودُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، قَالَ: بِالْعُهُودِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَ "العُقُودُ " جَمْعُ "عَقْدٍ"، وَأَصْلُ "الْعَقْدِ"، عََقْدُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ وَصْلُهُ بِهِ، كَمَا يَعْقِدُ الْحَبْلِ بِالْحَبْلِ، إِذَا وُصِلَ بِهِ شَدًّا. يُقَالُ مِنْهُ: "عَقَدَ فُلَانٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ عَقْدًا، فَهُوَ يَعْقِدُهُ"، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ *** شَدُّوا العِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا وَذَلِكَ إِذَا وَاثَقَهُ عَلَى أَمْرٍ وَعَاهَدَهُ عَلَيْهِ عَهْدًا بِالْوَفَاءِ لَهُ بِمَا عَاقَدَهُ عَلَيْهِ، مِنْ أَمَانٍ وَذِمَّةٍ، أَوْ نُصْرَةٍ، أَوْ نِكَاحٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ شَرِكَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ. ذِكْرُ مِنْ قَالَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ قَالَهُ فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ". حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، أَيْ: بِعَقْدِ الْجَاهِلِيَّةِ. ذُكِرَ لَنَا «أَنَّ نَبِيَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: أَوْفُوا بِعَقْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا تُحْدِثُوا عَقْدًا فِي الْإِسْلَام». وَذُكِرَ لَنَا «أَنَّ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانٍ الْعِجْلِيِّ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَلَّكَ تَسْأَلُ عَنْ حِلْفِ لَخْمٍ وَتَيْمِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعِمْ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ! قَالَ: لَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً.» حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، قَالَ: عُقُودُ الْجَاهِلِيَّةِ: الْحِلْفُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ الْحَلِفُ الَّتِي أَخَذَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ، فِيمَا أَحَلَّ لَهُمْ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، يَعْنِي: مَا أَحَلَّ وَمَا حَرَّمَ، وَمَا فَرَضَ، وَمَا حَدَّ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، فَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَنْكُثُوا. ثُمَّ شَدَّدَ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} إِلَى قَوْلِهِ: {سُوءُ الدَّارِ} [سُورَةُ الرَّعْدِ: 35]. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، مَا عَقَدَ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مِمَّا أَحَلَّ لَهُمْ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ الْعُقُودُ الَّتِي يَتَعَاقَدُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ، وَيَعْقِدُهَا الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: الْعُقُودُ خَمْسٌ: عُقْدَةُ الْأَيْمَانِ، وَعُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَعُقْدَةِ الْعَهْدِ، وَعُقْدَةِ الْبَيْعِ، وَعُقْدَةِ الْحِلْفِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعَّبٍَ الْقُرَظِيِّ أَوْ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، قَالَ: عَقْدُ الْعَهْدِ، وَعَقْدُ الْيَمِينِ وَعَقْدِ الْحِلْفِ، وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ. قَالَ: هَذِهِ الْعُقُودُ، خَمْسٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَتَبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الْحِمْصِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، قَالَ: الْعُقُودُ خَمْسٌ: عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَعُقْدَةُ الشَّرِكَةِ، وَعَقْدُ الْيَمِينِ، وَعُقْدَةُ الْعَهْدِ، وَعُقْدَةُ الْحِلْفِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِالْوَفَاءِ بِمَا أَخَذَ بِهِ مِيثَاقَهُمْ، مِنَ الْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، قَالَ: الْعُهُودُ الَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ: أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا جَاءَهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: «قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ: قَرَأَتُ كُتَّابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزَمٍَ حِينَ بَعَثَهُ عَلَى نَجْرَانَ فَكَانَ الْكِتَابُ عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، فِيهِ: "هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، فَكَتَبَ الْآيَاتِ مِنْهَا حَتَّى بَلَغَ" {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ".» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: أَوْفَوْا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، بِعُقُودِ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَهَا عَلَيْكُمْ، وَعَقَدَهَا فِيمَا أَحَلَّ لَكُمْ وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَأَلْزَمَكُمْ فَرْضَهُ، وَبَيَّنَ لَكُمْ حُدُودَهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ الْبَيَانَ عَمَّا أَحَلَّ لِعِبَادِهِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرَائِضِهِ. فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، أَمْرٌ مِنْهُ عِبَادَهُ بِالْعَمَلِ بِمَا أَلْزَمَهُمْ مِنْ فَرَائِضِهِ وَعُقُودِهِ عُقَيْبَ ذَلِكَ، وَنَهْيٌ مِنْهُ لَهُمْ عَنْ نَقْضِ مَا عَقَدَهُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: " {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "، أَمْرٌ مِنْهُ بِالْوَفَاءِ بِكُلِّ عَقْدٍ أَذِنَ فِيهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تَقُومَ حُجَّةٌ بِخُصُوصِ شَيْءٍ مِنْهُ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. فَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ كَمَا وَصَفْنَا، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِبَعْضِ الْعُقُودِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "أَوْفَوْا" فَإِنَّ لِلْعَرَبِ فِيهِ لُغَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: "أَوْفَوْا"، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "أَوْفَيْتُ لِفُلَانٍ بِعَهْدِهِ، أُوفِي لَهُ بِهِ". وَالْأُخْرَى مِنْ قَوْلِهِمْ: "وَفَيْتُ لَهُ بِعَهْدِهِ أَفِي". وَ "الإِيفَاءُ بِالْعَهْدِ"، إِتْمَامُهُ عَلَى مَا عُقِدَ عَلَيْهِ مِنْ شُرُوطِهِ الْجَائِزَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي "بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ" الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ أَحَلَّهَا لَنَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الْأَنْعَامُ كُلُّهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} "، قَالَ: الْأَنْعَامُ كُلُّهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} "، قَالَ: الْأَنْعَامُ كُلُّهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} "، قَالَ: الْأَنْعَامُ كُلُّهَا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرَنَا عَبِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} "، هِيَ الْأَنْعَامُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِقَوْلِهِ: " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} "، أَجِنَّةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي تُوجَدُ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا-إِذَا نُحِرَتْ أَوْ ذُبِحَتْ- مَيِّتَةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمََةُ الْأَنْعَامِ} قَالَ: مَا فِي بُطُونِهَا. قَالَ قُلْتُ: إِنْ خَرَجَ مَيِّتًا آكُلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيِّ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ وَزَادَ فِيهِ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ بِمَنْزِلَةِ رِئَتِهَا وَكَبِدِهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْجَنِينُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَكُلُوهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مِسْعَرٍ وَسُفْيَانَ، عَنْ قَابُوسَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَقَرَةً نُحِرَتْ فَوُجِدَ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ، فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَنَبِ الْجَنِينِ فَقَالَ: هَذَا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي أُحِلَّتْ لَكُمْ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ وَمُؤَمِّلٍ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَبَحْنَا بَقَرَةً، فَإِذَا فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ، فَسَأَلْنَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: هَذِهِ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} "، الْأَنْعَامَ كُلَّهَا: أَجِنَّتَهَا وَسِخَالَهَا وَكِبَارَهَا. لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَمْتَنِعُ مِنْ تَسْمِيَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ"بَهِيمَةً وَبَهَائِمَ"، وَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ مِنْهَا شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ. فَذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ وَظَاهِرِهِ، حَتَّى تَأْتِيَ حُجَّةٌ بِخُصُوصِهِ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. وَأَمَّا "النَّعَمُ" فَإِنَّهَا عِنْدَ الْعَرَبِ، اسْمٌ لِلْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ خَاصَّةً، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، [سُورَةُ النَّحْلِ: 5]، ثُمَّ قَالَ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [سُورَةُ النَّحْلِ: 8]، فَفَصَلَ جِنْسَ النَّعَمِ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ أَجْنَاسِ الْحَيَوَانِ. وَأَمَّا "بَهَائِمُهَا"، فَإِنَّهَا أَوْلَادُهَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا يَلْزَمُ الْكِبَارَ مِنْهَا اسْمُ "بَهِيمَةٍ"، كَمَا يَلْزَمُ الصِّغَارَ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: "بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ"، نَظِيرُ قَوْلِهِ: "وَلَدِ الْأَنْعَامِ". فَلَمَّا كَانَ لَا يُسْقِطُ مَعْنَى الْوِلَادَةِ عَنْهُ بَعْدَ الْكِبَرِ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ اسْمُ الْبَهِيمَةِ بَعْدَ الْكِبَرِ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: "بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ"، وَحَشِيُّهَا، كَالظِّبَاءِ وَبَقْرِ الْوَحْشِ وَالْحُمُرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيالَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: " {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ: أُحِلَّتْ لَكُمْ أَوْلَادُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، إِلَّا مَا بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}، الْآيَةَ [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 3].
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} "، إِلَّا الْمَيْتَةَ وَمَا ذَكَرَ مَعَهَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} "، أَيْ: مِنَ الْمَيْتَةِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، وَقَدَّمَ فِيهَا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} "، قَالَ: إِلَّا الْمَيْتَةَ وَمَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: " {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} "، الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} "، الْمَيْتَةُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} "، هِيَ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: "إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ"، الْخِنْزِيرُ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} قَالَ: الْخِنْزِيرُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرَنَا عَبِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} "، يَعْنِي: الْخِنْزِيرَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: "عَنَى بِذَلِكَ: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنْ تَحْرِيمِ اللَّهِ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ بِقَوْلِهِ: " {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} "، الْآيَةَ. لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَثْنَى مِمَّا أَبَاحَ لِعِبَادِهِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا. وَالَّذِي حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، مَا بَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 3]. وَإِنْ كَانَ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا، فَلَيْسَ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَيُسْتَثْنَى مِنْهَا. فَاسْتِثْنَاءُ مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا مِمَّا دَخَلَ فِي جُمْلَةِ مَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ، أَشْبَهُ مِنَ اسْتِثْنَاءِ مَا حَرَّمَ مِمَّا لَمَّ يَدْخُلْ فِي جُمْلَةِ مَا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "" {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}" " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} " فَذَلِكَ، عَلَى قَوْلِهِمْ، مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ. فَ"غَيْرُ" مَنْصُوبٍ عَلَى قَوْلِ قَائِلِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَى الْحَالِ مِمَّا فِي قَوْلِهِ: "أَوْفَوْا" مِنْ ذِكْرِ "الذِينَ آمَنُوا". وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ: أَوْفَوْا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، بِعُقُودِ اللَّهِ الَّتِي عَقَدَهَا عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِهِ، لَا مُحِلِّينَ الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أُحِلَّتْ لَكُمْبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ الْوَحْشِيَّةِ مِنَ الظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمْرِحُكْمُهَا "غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ"، غَيْرَ مُسْتَحِلِّي اصْطِيَادِهَا، وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ". فَ"غَيْرَ"، عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ، مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ "الكَافِ وَالْمِيمِ" اللَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: "لَكُمْ"، بِتَأْوِيلِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ، أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، لَا مُسْتَحِلِّي اصْطِيَادِهَا فِي حَالِ إِحْرَامِكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ كُلُّهَا "إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ"، إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا وَحْشِيًّا، فَإِنَّهُ صَيْدٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. فَكَأَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَجَّهَ الْكَلَامَ إِلَى مَعْنَى: أُحِلْتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ كُلُّهَا "إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ"، إِلَّا مَا يُبَيِّنُ لَكُمْ مِنْ وَحْشِيِّهَا، غَيْرَ مُسْتَحِلِّي اصْطِيَادِهَا فِي حَالِ إِحْرَامِكُمْ. فَتَكُونُ"غَيْرَ" مَنْصُوبَةً، عَلَى قَوْلِهِمْ، عَلَى الْحَالِ مِنْ "الكَافِ وَالْمِيمِ" فِي قَوْلِهِ: "إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ، فَحَدَّثَهُمْ فَقَالَ: " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} " صَيْدًا " {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} "، فَهُوَ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ. يَعْنِي: بَقَرَ الْوَحْشِ وَالظِّبَاءِ وَأَشْبَاهِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} "، قَالَ: الْأَنْعَامُ كُلُّهَا حِلٌّ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْهَا وَحْشِيًّا، فَإِنَّهُ صَيْدٌ، فَلَا يَحُلُّ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عَلَى مَا تَظَاهَرَ بِهِ تَأْوِيلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: " {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} "، مِنْ أَنَّهَا الْأَنْعَامُ وَأَجَنَّتُهَا وَسِخَالُهَا، وَعَلَى دَلَالَةِ ظَاهِرِ التَّنِْزِيلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَوْفَوْا بِالْعُقُودِ، غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، فَقَدْ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ فِي حَالِ إِحْرَامِكُمْ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَحْوَالِكُمْ، إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ تَحْرِيمُهُ مِنَ الْمَيْتَةِ مِنْهَا وَالدَّمِ، وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: "إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ"، لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ: "إِلَّا الصَّيْدَ"، لَقِيلَ: "إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مِنَ الصَّيْدِ غَيْرِ مُحِلِّيهِ". وَفِي تَرْكِ اللَّهِ وَصْلِ قَوْلِهِ: "إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ" بِمَا ذَكَرْتُ، وَإِظْهَارُ ذِكْرِ الصَّيْدِ فِي قَوْلِهِ: "غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ"، أُوْضَحُ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: "إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ"، خَبَرٌ مُتَنَاهِيَةٌ قِصَّتُهُ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: "غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ"، مُنْفَصِلٌ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}، مَقْصُودًا بِهِ قَصْدَ الْوَحْشِ، لَمْ يَكُنْ أَيْضًا لِإِعَادَةِ ذِكْرِ الصَّيْدِ فِي قَوْلِهِ: "غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ" وَجْهٌ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهُ قَبْلُ، وَلَقِيلَ: " {أُحِلْتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّيهِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ". وَفِي إِظْهَارِهِ ذُكِرُ الصَّيْدِ فِي قَوْلِهِ: "غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ"، أَبْيَنُ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الْعَرَبَ رُبَّمَا أَظْهَرَتْ ذِكْرَ الشَّيْءِ بِاسْمِهِ وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ؟ قِيلَ: ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهَا ضَرُورَةَ شِعْرٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْفَصِيحِ الْمُسْتَعْمَلِ مِنْ كَلَامِهِمْ. وَتَوْجِيهُ كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَفْصَحِ مِنْ لُغَاتٍ مِنْ نَزَلَ كَلَامُهُ بِلُغَتِهِ، أُولَى مَا وُجِدَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ مِنْ صَرْفِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِعُقُودِ اللَّهِ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْكُمْ مِمَّا حَرَّمَ وَأَحَلَّ، لَا مَحَلَّيْنِ الصَّيْدَ فِي حَرَمِكُمْ، فَفِيمَا أَحَلَّ لَكُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الْمُذَكَّاةِ دُونَ مَيْتَتِهَا، مُتَّسِعٌ لَكُمْ وَمُسْتَغْنًى عَنِ الصَّيْدِ فِي حَالِ إِحْرَامِكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَقْضِي فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ مِنْ تَحْلِيلِ مَا أَرَادَ تَحْلِيلَهُ، وَتَحْرِيمِ مَا أَرَادَ تَحْرِيمَهُ، وَإِيجَابِ مَا شَاءَ إِيجَابَهُ عَلَيْهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ وَقَضَايَاهُ فَأَوْفَوْا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، لَهُ بِمَا عَقَدَ عَلَيْكُمْ مِنْ تَحْلِيلِ مَا أَحِلَّ لَكُمْ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُقُودِهِ، فَلَا تَنْكُثُوهَا وَلَا تَنْقُضُوهَا. كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: "إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ"، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا أَرَادَ فِي خَلْقِهِ، وَبَيَّنَ لِعِبَادِهِ، وَفَرَضَ فَرَائِضَهُ، وَحَدَّ حُدُودَهُ، وَأَمَرَ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: لَا تُحِلُّوا حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَلَا تَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ كَأَنَّهُمْ وَجَّهُوا "الشَّعَائِرَ" إِلَى الْمَعَالِمِ، وَتَأَوَّلُوا"لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ"، مَعَالِمَ حُدُودِ اللَّهِ، وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَفَرَائِضَهُ. [ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ]: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ"شَعَائِرِ اللَّهِ" فَقَالَ: حُرُمَاتُ اللَّهِ، اجْتِنَابُ سَخَطِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ طَاعَتِهِ، فَذَلِكَ"شَعَائِرُ اللَّهِ". وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تُحِلُّوا حَرَمَ اللَّهِ فَكَأَنَّهُمْ وَجَّهُوا مَعْنَى قَوْلِهِ: "شَعَائِرَ اللَّهِ"، أَيْ: مَعَالِمَ حَرَمِ اللَّهِ مِنَ الْبِلَادِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ"، قَالَ: أَمَّا"شَعَائِرُ اللَّهِ"، فَحَرَمُ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تُحِلُّوا مَنَاسِكَ الْحَجِّ فَتُضَيِّعُوهَا وَكَأَنَّهُمْ وَجَّهُوا تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى: لَا تُحِلُّوا مَعَالِمَ حُدُودِ اللَّهِ الَّتِي حَدَّهَا لَكُمْ فِي حَجِّكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ"، قَالَ: مَنَاسِكَ الْحَجِّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ"، قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَيَهْدُونَ الْهَدَايَا، وَيُعَظِّمُونَ حُرْمَةَ الْمَشَاعِرِ، وَيَتَّجِرُونَ فِي حَجِّهِمْ، فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَغِيرُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: "شَعَائِرَ اللَّهِ"، الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ، وَالْهَدْيُ، وَالْبُدْنُ، كُلُّ هَذَا مِنْ"شَعَائِرِ اللَّهِ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَا تُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي حَالِ إِحْرَامِكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ"، قَالَ: "شَعَائِرَ اللَّهِ"، مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ أَنْ تُصِيبَهُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ. وَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَجَّهُوا تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى: لَا تُحِلُّوا مَعَالِمَ حُدُودِ اللَّهِ الَّتِي حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ فِي إِحْرَامِكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِقَوْلِهِ: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ"، قَوْلُ عَطَاءٍ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَوْجِيهِهِ مَعْنَى ذَلِكَ إِلَى: لَا تُحِلُّوا حُرُمَاتِ اللَّهِ وَلَا تُضَيِّعُوا فَرَائِضَهُ. لِأَنَّ "الشَّعَائِرَ" جَمْعُ"شَعِيرَةٍ"، "وَالشَّعِيْرَةُ""فَعِيلَةٌ" مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "قَدْ شَعَرَ فَلَانٌ بِهَذَا الْأَمْرِ"، إِذَا عَلِمَ بِهِ. فَ "الشَّعَائِرُ"، الْمَعَالِمُ، مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: لَا تَسْتَحِلُّوا، أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، مَعَالِمَ اللَّهِ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَعَالِمُ اللَّهِ كُلُّهَا فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ: مِنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ إِصَابَتَهُ فِيهَا عَلَى الْمُحْرِمِ، وَتَضْيِيعِ مَا نَهَى عَنْ تَضْيِيعِهِ فِيهَا، وَفِيمَا حَرَّمَ مِنَ اسْتِحْلَالِ حُرُمَاتِ حَرَمِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ مَعَالِمِهِ وَشَعَائِرِهِ الَّتِي جَعَلَهَا أَمَارَاتٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، يُعْلَمُ بِهَا حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ الْقَوْلُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ"، لِأَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنِ اسْتِحْلَالِ شَعَائِرِهِ وَمَعَالِمِ حُدُودِهِ وَإِحْلَالِهَا نَهْيًا عَامًّا، مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دُونَ شَيْءٍ، فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُوَجِّهَ مَعْنَى ذَلِكَ إِلَى الْخُصُوصِ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، وَلَا حُجَّةَ بِذَلِكَ كَذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: "وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ"، وَلَا تَسْتَحِلُّوا الشَّهْرَ الْحَرَامَ بِقِتَالِكُمْ فِيهِ أَعْدَاءَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 217]. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ"، يَعْنِي: لَا تَسْتَحِلُّوا قِتَالًا فِيهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُ يَوْمَئِذٍ لَا يُصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ، فَأُمِرُوا أَنْ لَا يُقَاتِلُوا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا عِنْدَ الْبَيْتِ. وَأَمَّا "الشَّهْرُ الْحَرَامُ" الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: "وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ"، فَرَجَبُ مُضَرَ، وَهُوَ شَهْرٌ كَانَتْ مُضَرُ تُحَرِّمُ فِيهِ الْقِتَالَ. وَقَدْ قِيلَ: هُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ"ذُو الْقِعْدَةِ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: هُوَ ذُو الْقِعْدَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةٍ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، وَذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: " {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: "أَمَّا الْهَدْيُ"، فَهُوَ مَا أَهْدَاهُ الْمَرْءُ مِنْ بَعِيرٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، تَقَرُّبًا بِهِ إِلَى اللَّهِ، وَطَلَبِ ثَوَابِهِ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلَا تَسْتَحِلُّوا ذَلِكَ، فَتَغْصِبُوهُ أَهْلَهُ غَلَبَةً وَلَا تَحُولُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا أَهْدَوْا مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَبْلُغُوا بِهِ الْمَحِلَّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مَحِلَّهُ مِنْ كَعْبَتِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ "الهَدْيَ" إِنَّمَا يَكُونُ هَدْيًا مَا لَمْ يُقَلَّدْ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "وَلَا الْهَدْيَ"، قَالَ: الْهَدْيُ مَا لَمْ يُقَلَّدْ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَهْدِيَهُ وَيُقَلِّدَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَلَا الْقَلَائِدَ"، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَا تُحِلُّوا أَيْضًا الْقَلَائِدَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي "القَلَائِدِ" الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ إِحْلَالِهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِ "الْقَلَائِدِ"، قَلَائِدَ الْهَدْيِ. وَقَالُوا: إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِقَوْلِهِ: "وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ"، وَلَا تُحِلُّوا الْهَدَايَا الْمُقَلَّدَاتِ مِنْهَا وَغَيْرَ الْمُقَلَّدَاتَِ. فَقَوْلُهُ: "وَلَا الْهَدْيَ"، مَا لَمْ يُقَلَّدْ مِنَ الْهَدَايَا "وَلَا الْقَلَائِدَ"، الْمُقَلَّدَ مِنْهَا. قَالُوا: وَدَلَّ بِقَوْلِهِ: "وَلَا الْقَلَائِدَ"، عَلَى مَعْنَى مَا أَرَادَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اسْتِحْلَالِ الْهَدَايَا الْمُقَلَّدَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "وَلَا الْقَلَائِدَ"، الْقَلَائِدُ، مُقَلَّدَاتِ الْهَدْيِ. وَإِذَا قَلَّدَ الرَّجُلُ هَدْيَهُ فَقَدْ أَحْرَمَ. فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ، فَلْيَخْلَعْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي بِذَلِكَ: الْقَلَائِدُ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَقَلَّدُونَهَا إِذَا أَرَادُوا الْحَجَّ مُقْبِلِينَ إِلَى مَكَّةَ، مِنْ لِحَاءِ السَّمُرِ وَإِذَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى مَنَازِلِهِمْ مُنْصَرِفِينَ مِنْهَا، مِنَ الشَّعَرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ"، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ الْحَجَّ، تَقَلَّدَ مِنَ السَّمُرِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ. فَإِذَا رَجَعَ تَقَلَّدَ قِلَادَةً شَعَرٍ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَتَقَلَّدُ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنَ الْحَرَمِ، أَوْ خَرَجَ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ، فَيَأْمَنُ بِذَلِكَ مِنْ سَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِسُوءٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مَالِكِ بْنِ مَغُولٍ، عَنْ عَطَاءٍ: "وَلَا الْقَلَائِدَ"، قَالَ: كَانُوا يَتَقَلَّدُونَ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ، يَأْمَنُونَ بِذَلِكَ إِذَا خَرَجُوا مِنَ الْحَرَمِ، فَنَزَلَتْ: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ"، الْآيَةَ، "وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "وَلَا الْقَلَائِدَ"، قَالَ: "الْقَلَائِدُ"، اللِّحَاءُ فِي رِقَابِ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ، أَمْنٌ لَهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: "وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ"، قَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَقَلَّدُونَ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ مَكَّةَ، فَيُقِيمُ الرَّجُلُ بِمَكَانِهِ، حَتَّى إِذَا انْقَضَتِ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، قَلَّدَ نَفْسَهُ وَنَاقَتِهِ مِنْ لِحَاءِ الشَّجَرِ، فَيَأْمَنُ حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "وَلَا الْقَلَائِدَ"، قَالَ: "الْقَلَائِدُ"، كَانَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ لِحَاءَ شَجَرَةٍ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ، فَيَتَقَلَّدُهَا، ثُمَّ يَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَ، فَيَأْمَنُ بِذَلِكَ. فَذَلِكَ "القَلَائِدُ". وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: "وَلَا الْقَلَائِدَ"، أَنْ يَنْزِعُوا شَيْئًا مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ فَيَتَقَلَّدُوهُ، كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْعَلُونَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: "وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ"، كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَأْخُذُونَ مِنْ شَجَرِ مَكَّةَ، مِنْ لِحَاءِ السَّمُرِ، فَيَتَقَلَّدُونَهَا، فَيَأْمَنُونَ بِهَا مِنَ النَّاسِ. فَنَهَى اللَّهُ أَنْ يُنْزَعَ شَجَرُهَا فَيُتَقَلَّدُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِِّيرِ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ فَحَدَّثَهُمْ فِي قَوْلِهِ: "وَلَا الْقَلَائِدَ"، قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَأْخُذُونَ مِنْ شَجَرِ مَكَّةَ، مِنْ لِحَاءِ السَّمَرِ، فَيَتَقَلَّدُونَ، فَيَأْمَنُونَ بِهَا فِي النَّاسِ. فَنَهَى اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ أَنْ يُنْزَعَ شَجَرُهَا فَيَتَقَلَّدُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: "وَلَا الْقَلَائِدَ" إِذْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى انْقِطَاعِهَا عَنْ أَوَّلِهِ، وَلَا أَنَّهُ عَنَى بِهَا النَّهْيَ عَنِ التَّقَلُّدِ أَوِ اتِّخَاذِ الْقَلَائِدِ مِنْ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَلَا تُحِلُّوا الْقَلَائِدَ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلِهِ أُولَى، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ نَهْيٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرِهِ عَنِ اسْتِحْلَالِ حُرْمَةِ الْمُقَلَّدِ، هَدْيًا كَانَ ذَلِكَ أَوْ إِنْسَانًا، دُونَ حُرْمَةِ الْقِلَادَةِ. وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ، إِنَّمَا دَلَّ بِتَحْرِيمِهِ حُرْمَةَ الْقِلَادَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُرْمَةِ الْمُقَلَّدِ، فَاجْتَزَأَ بِذِكْرِهِ "الْقَلَائِدَ" مِنْ ذِكْرِ "المُقَلَّدِ"، إِذْ كَانَ مَفْهُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ مَعْنَى مَا أُرِيدَ بِهِ. فَمَعْنَى الْآيَةِ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ، وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَلَا الْهَدْيَ، وَلَا الْمُقَلِّدَ نَفْسِهِ بِقَلَائِدَ الْحَرَمِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي شِعْرِهِ مَا ذَكَرْنَا عَمَّنْ تَأَوَّلَ "القَلَائِدَ" أَنَّهَا قَلَائِدُ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ الَّذِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَقَلَّدُونَهُ، فَقَالَ وَهُوَ يَعِيبُ رَجُلَيْنِ قَتَلَا رَجُلَيْنِ كَانَا تَقَلَّدَا ذَلِكَ: أَلَمْ تَقْتُلَا الْحِرْجَيْنِ إِذْ أَعْوَرَاكُمَا *** يُمِرَّانِ بِالْأَيْدِي اللِّحَاءَ الْمُضَفَّرَا وَ "الحَرِجَانِ"، الْمَقْتُولَانِ كَذَلِكَ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "أَعْوَرَاكُمَا"، أَمْكَنَاكُمَا مِنْ عَوْرَتِهِمَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ: "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، وَلَا تُحِلُّوا قَاصِدِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ الْعَامِدِيهِ. تَقُولُ مِنْهُ: "أَمَمَتُ كَذَا"، إِذَا قَصَدْتُهُ وَعَمْدْتُهُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: "يَمَمْتُهُ" كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إِنِّي كَذَاكَ إِذَا مَا سَاءَنِي بَلَدٌ *** يَمَمْتُ صَدْرَ بَعِيرِي غَيْرَهُ بَلَدًا "وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ"، بَيْتُ اللَّهِ الَّذِي بِمَكَّةَ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى لِمَ قِيلَ لَهُ "الحَرَامُ". "يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ"، يَعْنِي: يَلْتَمِسُونَ أَرْبَاحًا فِي تِجَارَاتِهِمْ مِنَ اللَّهِ "وَرِضْوَانًا"، يَقُولُ: وَأَنْ يَرْضَى اللَّهُ عَنْهُمْ بِنُسُكِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ بَنِي رَبِيعَةَ يُقَالُ لَهُ: "الْحُطَمُ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَقْبَلُ الْحُطَمُ بْنُ هِنْدٍ الْبَكْرِيُّ، ثُمَّ أَحُدُ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، وَخَلَّفَ خَيْلَهُ خَارِجَةً مِنْ الْمَدِينَةِ. فَدَعَاهُ، فَقَالَ: إِلَامَ تَدْعُو؟ فَأَخْبَرَهُ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: يَدْخُلُ الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مَنَّ رَبِيعَةَ، يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ شَيْطَانٍ! فَلَمَّا أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: انْظُرْ، وَلَعَلِّي أُسْلِمُ وَلِي مَنْ أُشَاوِرُهُ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ، وَخَرَجَ بِعَقِبِ غَادِرٍ! فَمَرَّ بِسَرْحٍ مِنْ سَرْحِ الْمَدِينَةِ فَسَاقَهُ، فَانْطَلَقَ بِهِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ *** لَيْسَ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرٍ الْوَضَمْ *** بَاتُوا نِيَامًا وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلَامٌ كَالزَّلَمْ *** خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحٌ القَدَمْ ثُمَّ أَقْبَلُ مِنْ عَامِ قَابِلٍ حَاجًّا قَدْ قَلَّدَ وَأَهْدَى، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يَبْعَثَ إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، حَتَّى بَلَغَ: "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ". قَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ صَاحِبُنَا! قَالَ: إِنَّهُ قَدْ قَلَّدَ! قَالُوا: إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ كُنَّا نَصْنَعُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ! فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَدِمَ الْحُطَمُ، أَخُو بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ ثَعْلَبَةِ الْبِكْرِيُّ، الْمَدِينَةَ فِي عِيرٍ لَهُ يَحْمِلُ طَعَامًا، فَبَاعَهُ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعَهُ وَأَسْلَمَ. فَلَمَّا وَلَّى خَارِجًا، نَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ لِمَنْ عِنْدَهُ: لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِ فَاجِرٍ، وَوَلَّى بِقَفَا غَادِرٍ! فَلَمَّا قَدِمَ الْيَمَامَةَ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَخَرَجَ فِي عِيرٍ لَهُ تَحْمِلُ الطَّعَامَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ يُرِيدُ مَكَّةَ. فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَهَيَّأَ لِلْخُرُوجِ إِلَيْهِ نَفَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لِيَقْتَطِعُوهُ فِي عِيرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ"، الْآيَةَ، فَانْتَهَى الْقَوْمُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، قَالَ: يَنْهَى عَنِ الْحُجَّاجِ أَنْ تُقْطَعَ سُبُلُهُمْ. قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ الْحُطَمُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرْتَادَ وَيَنْظُرَ، فَقَالَ: إِنِّي دَاعِيَةُ قَوْمٍ فَاعْرِضْ عَلَيَّ مَا تَقُولُ. قَالَ لَهُ: أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ أَنْ تَعْبُدَهُ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ. قَالَ الْحُطَمُ: فِي أَمْرِكَ هَذَا غِلْظَةٌ، أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي فَأَذْكُرُ لَهُمْ مَا ذَكَرْتَ، فَإِنْ قَبِلُوهُ أَقْبَلْتُ مَعَهُمْ، وَإِنْ أَدْبَرُوا كُنْتُ مَعَهُمْ. قَالَ لَهُ: ارْجِعْ. فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِ كَافِرٍ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِي بِعَقِبَيْ غَادِرٍ، وَمَا الرَّجُلُ بِمُسْلِمٍ! فَمَرَّ عَلَى سَرْحٍ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فَانْطَلَقَ بِهِ، فَطَلَبَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَاتَهُمْ، وَقَدِمَ الْيَمَامَةَ، وَحَضَرَ الْحَجَّ، فَجَهَّزَ خَارِجًا، وَكَانَ عَظِيمَ التِّجَارَةِ، فَاسْتَأْذَنُوا أَنْ يَتَلَقَّوْهُ وَيَأْخُذُوا مَا مَعَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ". حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ" الْآيَةَُ، قَالَ: هَذَا يَوْمُ الْفَتْحِ، جَاءَ نَاسٌ يَؤُمُّونَ الْبَيْتَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُهِلُّونَ بِعُمْرَةٍ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ كَمَثَلٍ هَؤُلَاءِ فَلَنْ نَدَعَهُمْ إِلَّا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِمْ. فَنَزَلَ الْقُرْآنُ: "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، يَقُولُ: مَنْ تَوَجَّهُ حَاجًّا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِِ فِي قَوْلِهِ: "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، يَعْنِي: الْحَاجَّ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ، فَحَدَّثَهُمْ فَقَالَ: "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، قَالَ: الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْبَيْتَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا نُسِخَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مِنْهَا مَنْسُوخًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُسِخَ جَمِيعُهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: لَمْ يُنْسَخْ مِنَ الْمَائِدَةِ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ: " {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} ". حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} "، نَسَخَتْهَا، {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 5]. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ بَيَانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ غَيْرَ هَذِهِ الْآيَةِ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} ". حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ" الْآيَةَ، قَالَ: مَنْسُوخٌ. قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُ يَوْمَئِذٍ لَا يُصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ، فَأُمِرُوا أَنْ لَا يُقَاتِلُوا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَلَا عِنْدَ الْبَيْتِ، فَنَسَخَهَا قَوْلُهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ" إِلَى قَوْلِهِ: "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، قَالَ: نَسَخَتْهَا"بَرَاءَةٌ": {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ: " {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} "، قَالَ: هَذَا شَيْءٌ نُهِيَ عَنْهُ، فَتُرِكَ كَمَا هُوَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، قَالَ: هَذَا كُلُّهُ مَنْسُوخٌ، نَسَخَ هَذَا أَمْرُهُ بِجِهَادِهِمْ كَافَّةً. وَقَالَ آخَرُونَ: الَّذِي نُسِخَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: "وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَرَأَتُ عَلَى ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ قَتَادَةَ: نُسِخَ مِنْ "المَائِدَةِ": "آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، نَسَخَتْهَا"بَرَاءَةٌ" قَالَ اللَّهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، وَقَالَ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 17]، وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 27]، وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ، فَنَادَى فِيهِ بِالْأَذَانِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} " الْآيَةَ، قَالَ: فَنَسَخَ مِنْهَا: "آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، نَسَخَتْهَا"بَرَاءَةٌ"، فَقَالَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، فَذَكَرَ نَحْوِ حَدِيثِ عَبْدَةَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: نَزَلَ فِي شَأْنِ الْحُطَمِ: "وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ فَقَالَ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 191]. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} " إِلَى قَوْلِهِ: "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ"، [فَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ إِلَى الْبَيْتِ] جَمِيعًا، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْنَعُوا أَحَدًا أَنْ يَحُجَّ الْبَيْتَ أَوْ يَعْرِضُوا لَهُ، مِنْ مُؤْمِنٍ أَوْ كَافِرٍ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، وَقَالَ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ}، وَقَالَ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سُورَةُ التَّوْبَةِ: 18]، فَنَفَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ"، الْآيَةَ، قَالَ: مَنْسُوخٌ، كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ الْحَجَّ، تَقَلَّدَ مِنَ السَّمُرِ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ. وَإِذَا رَجَعَ، تَقَلَّدَ قِلَادَةَ شَعَرٍ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ. وَكَانَ الْمُشْرِكَ يَوْمَئِذٍ لَا يُصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ. وَأُمِرُوا أَنْ لَا يُقَاتِلُوا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَلَا عِنْدَ الْبَيْتِ، فَنَسَخَهَا قَوْلُهُ: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ". وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، إِلَّا الْقَلَائِدَ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَقَلَّدُونَهَا مِنْ لِحَاءِ الشَّجَرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: "لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ"، الْآيَةَ، قَالَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا كُلُّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِعْلُهُ وَإِقَامَتُهُ، فَحَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْإِسْلَامِ، إِلَّا لِحَاءَ الْقَلَائِدِ، فَتَرَكَ ذَلِكَ "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِخَافَتَهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصِّحَّةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: نَسَخَ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ: "وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، لِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ قِتَالَ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَغَيْرِهَا مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ كُلِّهَا. وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكَ لَوْ قَلَّدَ عُنُقَهُ أَوْ ذِرَاعَيْهِ لِحَاءَ جَمِيعِ أَشْجَارِ الْحَرَمِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ أَمَانًا مِنَ الْقَتْلِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ لَهُ عَقْدُ ذِمَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَمَانٍ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى "القَلَائِدِ" فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ"، فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ ظَاهِرُهُ: وَلَا تَحِلُّوا حُرْمَةَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ مَنْ أَهَلِ الشِّرْكِ وَالْإِسْلَامِ، لِعُمُومِ جَمِيعِ مَنْ أَمَّ الْبَيْتَ. وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ، فَكَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ دَاخِلِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}، نَاسِخٌ لَهُ. لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ بِقَتْلِهِمْ وَتَرْكِ قَتْلِهِمْ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَوَقْتٍ وَاحِدٍ. وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُهُمْ، أَمُّوا الْبَيْتَ الْحَرَامَ أَوِ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ، فِي أَشْهُرِ الْحُرُمِ وَغَيْرِهَا مَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ قَتْلِهِمْ إِذَا أَمُّوا الْبَيْتَ الْحَرَامَ مَنْسُوخٌ. وَمُحْتَمَلٌ أَيْضًا: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. وَأَكْثَرُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ عُنِيَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَهُوَ أَيْضًا لَا شَكَّ مَنْسُوخٌ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ لَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ ظَاهِرٌ، وَكَانَ مَا كَانَ مُسْتَفِيضًا فِيهِمْ ظَاهِرًا حُجَّةً فَالْوَاجِبُ، وَإِنِ احْتُمِلَ ذَلِكَ مَعْنًى غَيْرَ الَّذِي قَالُوا، التَّسْلِيمُ لِمَا اسْتَفَاضَ بِصِحَّتِهِ نَقْلُهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "يَبْتَغُونَ"، يَطْلُبُونَ وَيَلْتَمِسُونَ وَ "الفَضْلُ" الْأَرْبَاحُ فِي التِّجَارَةِ وَ "الرِّضْوَانُ"، رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ، فَلَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مَا أَحَلَّ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ، بِحَجِّهِمْ بَيْتَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: "يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا"، قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ، يَلْتَمِسُونَ فَضْلَ اللَّهِ وَرِضْوَانَهُ فِيمَا يُصْلِحُ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَرَأَتُ عَلَى ابْنِ أَبِي عُرُوبَةَ فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: "يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا"، وَالْفَضْلُ وَالرِّضْوَانُ اللَّذَانِ يَبْتَغُونَ: أَنْ يُصْلِحَ مَعَايِشَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ لَا يُعَجَّلُ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِيهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا"، يَعْنِي: أَنَّهُمْ يَتَرَضَّوْنَ اللَّهَ بِحَجِّهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ فَحَدَّثَهُمْ فِي قَوْلِهِ: "يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا"، قَالَ: التِّجَارَةُ فِي الْحَجِّ، وَالرِّضْوَانُ فِي الْحَجِّ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي أُمَيْمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الرَّجُلِ يَحُجُّ وَيَحْمِلُ مَعَهُ مَتَاعًا، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: "يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا"، قَالَ: يَبْتَغُونَ الْأَجْرَ وَالتِّجَارَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا الصَّيْدَ الَّذِي نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُحِلُّوهُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. يَقُولُ: فَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ فِي اصْطِيَادِهِ، وَاصْطَادُوا إِنْ شِئْتُمْ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كُنْتُ حَرَّمْتُهُ عَلَيْكُمْ فِي حَالِ إِحْرَامِكُمْ قَدْ زَالَ. وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَصِينٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ رُخْصَةٌ يَعْنِي قَوْلَهُ: " {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ". حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَمْسٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ رُخْصَةٌ، وَلَيْسَتْ بِعَزْمَةٍ، فَذَكَرَ: "وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا"، قَالَ: مَنْ شَاءَ فَعَلَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَصِينٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} "، قَالَ: إِذَا حَلَّ، فَإِنْ شَاءَ صَادَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَصْطَدْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْأَكْلَ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَاجِبًا، وَكَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: "وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا" {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [سُورَةُ الْجُمْعَةَ: 10].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ"، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} "، يَقُولُ: لَا يَحْمِلْنَكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} "، أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ. وَأَمَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا. فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ "، لَا يُحِقَّنَّ لَكُمْ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 62]، هُوَ: حَقٌّ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ. وَقَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: مَعْنَاهُ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ. وَقَالَ: يُقَالُ: "جَرَمَنِي فَلَانٌ عَلَى أَنْ صَنَعَتُ كَذَا وَكَذَا"، أَيْ: حَمَلَنِي عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ جَمِيعُهُمْ بِبَيْتِ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ طَعَنْتَ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً *** جَرَمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي تَأَوَّلَهُ مِنَ الْقُرْآنِ. فَقَالَ الَّذِينَ قَالُوا: "لَا يَجْرِمَنَّكُمْ "، لَا يُحِقَّنَّ لَكُمْ مَعْنَى قَوْلِ الشَّاعِرِ: "جَرَمَتْ فَزَارَةُ"، أَحَقَّتِ الطَّعْنَةُ لِفَزَارَةَ الْغَضَبَ. وَقَالَ الَّذِينَ قَالُوا: مَعْنَاهُ: لَا يَحْمِلْنَكُمْ مَعْنَاهُ فِي الْبَيْتِ: "جَرَمَتْ فَزَارَةَ أَنْ يَغْضَبُوا"، حَمَلَتْ فَزَارَةَ عَلَى أَنْ يَغْضَبُوا. وَقَالَ آخَرُ مَنْ الْكُوفِيِّينَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "لَا يَجْرِمَنَّكُمْ "، لَا يَكْسِبْنَكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ. وَتَأْوِيلُ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلِ الشَّاعِرِ فِي الْبَيْتِ: "جَرَمَتْ فَزَارَةُ "، كَسَبَتْ فَزَارَةُ أَنْ يَغْضَبُوا. قَالَ: وَسَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ: "فَلَانَ جَرِيمَةُ أَهْلِهِ"، بِمَعْنَى: كَاسِبَهُمْ "وَخَرَجَ يَجْرِمُهُمْ"، يَكْسِبُهُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي حَكَيْنَاهَا عَمَّنْ حَكَيْنَاهَا عَنْهُ، مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى. وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَمَلَ رَجُلًا عَلَى بُغْضِ رَجُلٍ، فَقَدْ أَكْسَبَهُ بُغْضَهُ. وَمَنْ أَكْسَبَهُ بُغْضَهُ، فَقَدْ أَحَقَّهُ لَهُ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي هُوَ أَحْسَنُ فِي الْإِبَانَةِ عَنْ مَعْنَى الْحَرْفِ، مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ، وَذَلِكَ تَوْجِيهُهُمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ"، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى الْعُدْوَانِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةٍ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ) بِفَتْحِ "اليَاءِ" مِنْ: "جَرَمْتُهُ أجْرِمُهُ". وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ: مَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَرَأَ: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ) مُرْتَفِعَةَ "اليَاءِ"، مِنْ: "أَجْرَمْتُهُ أَجْرِمُهُ، وَهُوَ يَجْرِمُنِي". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ) بِفَتْحِ "اليَاءِ"، لِاسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، وَشُذُوذِ مَا خَالَفَهَا، وَأَنَّهَا اللُّغَةُ الْمَعْرُوفَةُ السَّائِرَةُ فِي الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ مَسْمُوعًا مِنْ بَعْضِهَا: "أَجْرَمَ يُجْرِمُ" عَلَى شُذُوذِهِ. وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِأَفْصَحِ اللُّغَاتِ، أَوْلَى وَأَحَقُّ مِنْهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْ لُغَةِ مَنْ قَالَ"جَرَمْتُ"، قَوْلُ الشَّاعِرِ: يَا أَيُّهَا المُشْتَكِي عُكْلًا وَمَا جَرَمَتْ *** إِلَى القَبَائِلِ مِنْ قَتْلٍ، وَإِبْآسُ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {شَنَآنُ قَوْمٍ}. اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةٍ ذَلِكَ. فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: (شَنَآنُ) بِتَحْرِيكِ "الشِّينِ وَالنُّونِ" إِلَى الْفَتْحِ، بِمَعْنَى: بُغْضَ قَوْمٍ، تَوْجِيهًا مِنْهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي يَأْتِي عَلَى"فَعَلَانِ"، نَظِيرَ "الطَّيَرَانِ" وَ "النَّسَلَانِ" وَ "العَسَلَانِ" وَ "الرَّمَلَانِ". وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: {شَنَآنُ قَوْمٍ} بِتَسْكِينِ "النُّونِ" وَفَتْحِ "الشِّينِ" بِمَعْنَى: الِاسْمُ، تَوْجِيهًا مِنْهُمْ مَعْنَاهُ إِلَى: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ بَغِيضُ قَوْمٍ فَيَخْرُجُ"شَنْآنُ" عَلَى تَقْدِيرٍ"فَعْلَانَ"، لِأَنَّ"فَعَلَ" مِنْهُ عَلَى"فَعِلَ" كَمَا يُقَالُ: "سَكْرَانُ" مِنْ"سُكْرٍ"، وَ"عَطْشَانُ" مِنْ"عَطَشٍ"، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {شَنَآنُ قَوْمٍ} بِفَتْحِ "النُّونِ" مُحَرِّكَةً، لِشَائِعِ تَأْوِيلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: بُغْضُ قَوْمٍ وَتَوْجِيهِهِمْ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ دُونَ مَعْنَى الِاسْمِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مُوَجَّهًا إِلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ، فَالْفَصِيحُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِيمَا جَاءَ مِنَ الْمَصَادِرِ عَلَى "الفَعْلَانِ" بِفَتْحِ "الفَاءِ"، تَحْرِيكُ ثَانِيهِ دُونَ تَسْكِينِهِ، كَمَا وَصَفَتُ مِنْ قَوْلِهِمْ: "الدَّرَجَانَ" وَ "الرَّمَلَانَ"، مِنْ"دَرَجَ" وَ"رَمَلَ"، فَكَذَلِكَ "الشَّنَآنُ" مَنْ"شَنِئْتُهُ أَشنَؤُهُ شَنَآنًا"، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: "شَنَانٌ" عَلَى تَقْدِيرِ"فَعَالٍ"، وَلَا أَعْلَمَ قَارِئًا قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَمَا الْعَيْشُ إِلَّا مَا تَلَذُّ وَتَشْتَهِي *** وَإِنْ لَامَ فِيهِ ذُو الشَّنَانِ وَفَنَّدَا وَهَذَا فِي لُغَةٍ مِنْ تَرَكَ الْهَمْزِ مِنْ "الشَّنَآنِ"، فَصَارَ عَلَى تَقْدِيرِ"فَعَالٍ" وَهُوَ فِي الْأَصْلِ"فَعَلَانِ". ذَكْرُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: "شَنَآنُ قَوْمٍ"، بُغْضُ قَوْمٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ"، لَا يَحَمِلَّنَكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ. وَحَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى مَرَّةً أُخْرَى بِإِسْنَادِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَا يَحَمِلَّنَكُمْ عَدَاوَةُ قَوْمٍ أَنْ تَعْتَدُوا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ"، لَا يَجْرِمَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ "، قَالَ: بُغَضَاؤُهُمْ، أَنْ تَعْتَدُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةٍ ذَلِكَ. فَقَرَأَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ: {أَنْ صَدُّوكُمْ} بِفَتْحِ "الأَلْفِ " مِنْ"أَنْ"، بِمَعْنَى: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ بِصَدِّهِمْ إِيَّاكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا. وَكَانَ بَعْضُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ يَقْرَأُ ذَلِكَ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ إِنْ صَدُّوكُمْ}، بِكَسْرِ "الأَلْفِ" مِنْ"إِنْ"، بِمَعْنَى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ إِنْ هُمْ أَحْدَثُوا لَكُمْ صَدًّا عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا فَزَعَمُوا أَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (إِنْ يَصُدُّوكُمْ)، فَقَرَأُوا ذَلِكَ كَذَلِكَ اعْتِبَارًا بِقِرَاءَتِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، صَحِيحٌ مَعْنَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُدَّ عَنِ الْبَيْتِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ"سُورَةُ الْمَائِدَةِ" بَعْدَ ذَلِكَ، فَمَنْ قَرَأَ (أَنْ صَدُّوكُمْ) بِفَتْحِ "الأَلْفِ" مِنْ"أَنْ"، فَمَعْنَاهُ: لَا يَحَمِلَّنَكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ، أَيُّهَا النَّاسُ، مِنْ أَجْلِ أَنْ صَدُّوكُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَنْ تَعْتَدُوا عَلَيْهِمْ. وَمَنْ قَرَأَ: (إِنْ صَدُّوكُمْ) بِكَسْرِ "الأَلْفِ"، فَمَعْنَاهُ: لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ إِنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذَا أَرَدْتُمْ دُخُولَهُ. لِأَنَّ الَّذِينَ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مِنْ قُرَيْشٍ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، قَدْ حَاوَلُوا صَدَّهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَتَقَدَّمَ اللَّهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِكَسْرِ"إِنْ" بِالنَّهْيِ عَنِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ، إِنْ هُمْ صَدُّوهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الصَّادِّينَ. غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ، وَإِنْ كَانَ كَمَا وَصَفْتُ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ ذَلِكَ بِفَتْحِ "الأَلِفِ"، أَبْيَنُ مَعْنًى. لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ لَا تَدَافُعَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالصَّدُّ قَدْ كَانَ تَقْدَّمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الصَّادِّينَ مِنْ أَجْلِ صَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "أَنْ تَعْتَدُوا"، فَإِنَّهُ يَعْنِي: أَنْ تَجَاوَزُوا الْحَدَّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ لَكُمْ فِي أَمْرِهِمْ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: وَلَا يَحَمِلَّنَكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ، لِأَنَّ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنْ تَعْتَدُوا حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ، فَتَجَاوَزُوهُ إِلَى مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَلَكِنِ الْزَمُوا طَاعَةَ اللَّهِ فِيمَا أَحْبَبْتُمْ وَكَرِهْتُمْ. وَذُكِرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّهْيِ عَنِ الطَّلَبِ بِذُحُولِ الْجَاهِلِيَّةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: "أَنْ تَعْتَدُوا"، رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ حُلَفَاءِ مُحَمَّدٍ، قَتَلَ حَلِيفًا لِأَبِي سُفْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ يَوْمَ الْفَتْحِ بِعَرَفَةَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ حُلَفَاءَ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ بِذَحْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا مَنْسُوخٌ
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ تَعْتَدُوا"، قَالَ: بُغَضَاؤُهُمْ، حَتَّى تَأْتُوا مَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ. وَقَرَأَ: "أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا"، وَقَالَ: هَذَا كُلُّهُ قَدْ نُسِخَ، نَسَخَهُ الْجِهَادُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، لِاحْتِمَالِهِ: أَنْ تَعْتَدُّوا الْحَقَّ فِيمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ. وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: "هُوَ مَنْسُوخٌ"، إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى"، وَلْيُعِنْ بَعْضُكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، بَعْضًا "عَلَى الْبِرِّ"، وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْعَمَلِ بِهِ "وَالتَّقْوَى"، هُوَ اتِّقَاءُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّقَائِهِ وَاجْتِنَابِهِ مِنْ مَعَاصِيهِ. وَقَوْلُهُ: "وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"، يَعْنِي: وَلَا يُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا "عَلَى الْإِثْمِ"، يَعْنِي: عَلَى تَرْكِ مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِفِعْلِهِ "وَالْعُدْوَانِ"، يَقُولُ: وَلَا عَلَى أَنْ تَتَجَاوَزُوا مَا حَدَّ اللَّهُ لَكُمْ فِي دِينِكُمْ، وَفَرْضَ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي غَيْرِكُمْ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُّوا، وَلَكِنْ لِيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْأَمْرِ بِالِانْتِهَاءِ إِلَى مَا حَدَّهُ اللَّهُ لَكُمْ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِي غَيْرِهِمْ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ أَنْ تَأْتُوا فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ، وَفِي سَائِرِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَلَا يُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَبِمَا قُلْنَا فِي "البِرِّ وَالتَّقْوَى" قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى"، "البِرُّ" مَا أَمَرْتُ بِهِ، وَ "التَّقْوَى" مَا نَهَيْتُ عَنْهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: " {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} " قَالَ: "الْبَرُّ" مَا أَمَرْتُ بِهِ، وَ "التَّقْوَى" مَا نَهَيْتُ عَنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَهَدُّدٌ لِمَنِ اعْتَدَى حَدَّهُ وَتَجَاوَزَ أَمْرَهُ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ: "وَاتَّقَوْا اللَّهَ"، يَعْنِي: وَاحْذَرُوا اللَّهَ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَنْ تَلْقَوْهُ فِي مَعَادِكُمْ وَقَدِ اعْتَدَيْتُمْ حَدَّهُ فِيمَا حَدَّ لَكُمْ، وَخَالَفْتُمْ أَمْرَهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، أَوْ نَهْيَهُ فِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، فَتَسْتَوْجِبُوا عِقَابَهُ، وَتَسْتَحِقُّوا أَلِيمَ عَذَابِهِ. ثُمَّ وَصَفَ عِقَابَهُ بِالشِّدَّةِ فَقَالَ عَزَّ ذِكْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدٌ عِقَابُهُ لِمَنْ عَاقَبَهُ مَنْ خَلْقِهِ، لِأَنَّهَا نَارٌ لَا يُطْفَأُ حَرُّهَا، وَلَا يُخْمَدُ جَمْرُهَا، وَلَا يُسْكَنُ لَهَبُهَا، نُعَوِّذُ بِاللَّهِ مِنْهَا وَمِنْ عَمَلٍ يُقَرِّبُنَا مِنْهَا.
|